04/03/2023 - 23:11

حوار | معركة مخيم جنين الكبرى.. التاريخ الحي والحاضر

د. حويل: "شكلت معركة 2002 الكبرى محطة مفصلية وإن لم تكن هي نقطة البداية، حيث كانت أول معركة يخوضها الفلسطينيون مع العدو داخل الوطن، بعد إقامة دولته عام 1948، معركة يخوضها عدد قليل من المقاتلين في مساحة جغرافية محدودة".

حوار | معركة مخيم جنين الكبرى.. التاريخ الحي والحاضر

مخيم جنين بعد المعركة، يوم 20 نيسان/ أبريل 2002 (Gettyimages)

بعد 20 عاما على المعركة التي شارك بها وكان أحد أشخاصها، يصدر كتاب جمال حويل "معركة مخيم جنين الكبرى 2002 – التاريخ الحي" عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ليشكل وثيقة حية لمعركة حاضرة في التاريخ والجغرافية السياسية الفلسطينيين.

بعد 20 عاما على الاجتياح الذي أراد كسر شوكته، ما زال مخيم جنين، برأي الكثير من الباحثين والمحللين، يمثل تحديا إستراتيجيا للاحتلال وحالة مقاومة فريدة قابلة للانتشار، وكذلك نموذج يهدد بتقويض كافة الترتيبات السياسية التي تؤمن وضعية الهدوء والاستقرار التي تطيل عمر الاحتلال.

هو كما اللوحة التي رسمها له الكاتب نهاد أبو غوش، "في كل عائلة شهيد، وفي كل زاوية معركة، وفي كل زقاق قصة بطولة يرويها الكبار ويتفتح وعي الصغار عليها. هنا استشهدت ماجدة عبيد، وعلى مدخل الحارة أُعدم وسام أبو جعص وداست المركبة العسكرية جثمانه، وهذه أنقاض منزل الصايغ الذي قُصف بقذائف الأنيرجا ’الحارقة’ فدُمّر واستشهد كل من كانوا فيه، وهناك ودعت أم العبد الشهيد عز الدين صلاحات صديق ابنها الشهيد جمال، وغطته بالكوفية وغنت له ما تغنيه الأمهات لأبنائهن الشهداء". وعلى الجدران تزدحم صور الشهداء: شبابا في عمر الورد، أمهات وأطفالا، معلمين وأطباء وعمالا وطلبة، بين هؤلاء ثمة مكان مميز للشهيدة شيرين أبو عاقلة التي يعتبرها أهل المخيم منهم، وبسرعة احتلت صورة خيري علقم مكانتها بين شهداء المخيم إلى جانب صورة عدي التميمي".

بين الجامعة والمعركة والسجن ولدت هذه الدراسة، التي بدأت كيوميات مقاتل في غرفة عمليات المخيم وتحولت إلى دراسة أكاديمية لنيل درجة الماجستير لطالب من جامعة بير زيت، ثم إلى كتاب صدر مؤخرا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية وقدم له الأسير القائد مروان البرغوثي، لرفيق الأسر وأخ التنظيم جمال حويل.

حويل يقول في مقدمة الكتاب، إن معركة مخيم جنين تعتبر من أبرز محطات الصمود والانتصار في التاريخ الفلسطيني المعاصر، ذلك أنها دشنت، ولأول مرة، نموذجا للانتصار على الاحتلال "من داخله"، إذ كانت التجربة العسكرية الفريدة، وتكاد تكون الوحيدة، في "تاريخ الانتصارات الفلسطينية من داخل فلسطين المحتلة" بعد تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948 وحرمان الفلسطينيين من تشكيل حداثتهم وإقامة دولتهم؛ مقارنةً بمعارك مثل الكرامة، وبيروت، والحصارات المتوالية على الفلسطينيين وقيادتهم التاريخية.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الدكتور جمال حويل، لإلقاء مزيد من الضوء على الكتاب والمعركة الحاضرة يوميا في جنين ومخيمها.

"عرب 48": "مخيم جنين" ليست "معركة أسطورية" سجلها مقاتلوه وأهله خلال اجتياح عام 2002 فقط، بل هو فعل يعيد إنتاج نفسه يوميا ليضيف سطورا جديدة إلى فصول الأسطورة الفلسطينية التي لا تنتهي، لذلك فإن كتابك الذي يصدر بعد 20 سنة على "المعركة" هو "تاريخ حي ونابض بفعل المقاومة المتجددة"؟

د. جمال حويل

حويل: صحيح، لقد جرى تصميم رواية أو أسطورة ساهم الاحتلال أيضا بظلمه وجبروته ودمويته أيضا في صنعها، على غرار "مسادا" أو "اسبارطة"، وبالتالي تحولت المقاومة إلى جزء من الثقافة المروية للشباب يتم تداولها وتوارثها جيلا بعد جيل، باتوا يتوارثون الشهادة والأسر والمعاناة، فهذا عمه شهيد وذاك التقى مع والده المحكوم خمسة مؤبدات في السجن الذي دخله فيما كان في بطن أمه، فلا تجد حارة أو زقاق في المخيم يخلو من شاهد على ظلم وإرهاب وإجرام الاحتلال.

هذا عدا عن أنه ما دام المخيم بما يمثله من حالة تهجير ولجوء فعلي وما يحمله من رمزية لقضية شعب ووطن يتعرض لمحاولات محوه عن الوجود، فإن موجبات المقاومة وضرورات الدفاع عن نفسها ما زالت موجودة، ولذلك كان شعارنا خلال المعركة، أنه لا لجوء جديد إلا إلى حيفا وعكا ويافا، وأن كل من دخل حاراتنا وبيوتنا يجب أن يدفع الثمن، وأننا لسنا لقمة سائغة في فم الاحتلال بل منارة لشعبنا الفلسطيني.

هذه الثقافة متغلغلة في المخيم قبل الاجتياح والمعركة الكبرى وبعده وكل معركة وشهيد إنما تعزز هذه الثقافة وتكرسها وتساهم في نقلها من جيل إلى جيل، وبالتالي أصبح المخيم يشكل هوية جامعة للفصائل وهوية جامعة للجغرافيا.

وقد شكلت معركة 2002 الكبرى محطة مفصلية وإن لم تكن هي نقطة البداية، حيث كانت أول معركة يخوضها الفلسطينيون مع الاحتلال داخل الوطن بعد إقامة دولته عام 1948، معركة يخوضها عدد قليل من المقاتلين في مساحة جغرافية محدودة، مع خيرة قوات النخبة الإسرائيلية المعززة بالدبابات والطائرات والتكنولوجيا الحديثة، ويقودها رئيس الأركان موفاز ويعالون ومن خلفهما وزير الأمن بن إليعيزر ورئيس الحكومة شارون، وتكبد فيها الاحتلال خسائر بشرية موجعة بلغت عشرات القتلى من جنوده.

مخيم جنين بعد المعركة (Gettyimages)

"عرب 48": ما أهمية أن المعركة جرت داخل الوطن كما تشير؟

حويل: شعبنا حقق العديد من معارك الصمود خارج الوطن، مثل الكرامة وبيروت وغيرها، ولكن أن تحقق انتصارا على الاحتلال من الداخل فذلك يحمل دلالات عميقة، ويشير إلى إمكانية خلق توازنات مستقبلية غير قابلة للكسر، وبالتالي فرض مساومات تدفع به إلى التراجع عن غطرسته واحترام إرادة شعبنا.

وأنا أتحدث هنا عن توظيف القوة والصمود بشكل صحيح لتحقيق أهداف سياسية إستراتيجية، فقد رأينا، حتى مؤخرا، كيف أن الأميركيين لم يأتوا إلى السلطة الفلسطينية ومحمود عباس إلا بعد أن حصلت مواجهة في مخيم جنين، بمعنى أنه حتى من باب المساومة السياسية التي تتبع منطق الاستفادة، لا يمكن الحصول على ثمن ولو بسيط على غرار مطلب أبو مازن من الأميركيين مؤخرا من دون المقاومة.

وإن كان من المؤسف أنه إذا ما تتبعنا ثورات الشعب الفلسطيني من ثورة النبي موسى وثورة يافا وثورة البراق والثورة الكبرى (1936 - 1939) وصولا إلى الانتفاضة الأولى والثانية وحتى حصار بيروت، نلاحظ أنه كلما كان الاحتلال في أزمة خسارة مادية وبشرية ومعنوية وأخلاقية وقانونية أمام العالم والهيئات الدولية، تأتي لجان دولية إلى فلسطين من أجل إنقاذ وحماية إسرائيل ونحن نقع بالفخ ذاته ونبتلع الطعم ذاته.

قيادات فلسطينية همها مناصبها ومواقعها تترافق مع ضغوطات عربية، والنتيجة أننا نقبل بالتالي الطريقة نفسها الأساليب نفسها ونتوقع نتائج جديدة.

"عرب 48": لكن طريقة مخيم جنين مختلفة؟

حويل: في جنين المقاومة أوصلت رسالة مغايرة، المقاومة في غزة أيضا ورغم الملاحظات هنا وهناك إلا أن الاحتلال لا يستطيع الدخول لشوارع غزة نهائيا، لا يوجد أي جندي إسرائيلي، وحتى أن بعض الأصوات الإسرائيلية صارت تقول، لقد ضبطوا الأمن وكل شيء جيد فلماذا لا نعطيهم ما يريدونه.

"عرب 48": نحن نعرف أن مخيم جنين غرد دائما خارج السرب، كما يقولون، حتى أن ياسر عرفات الذي شبه معركته بـ"جنين جراد" لم يتمكن من دخوله بعد فك الحصار عنه، واكتفى بتحليق مروحيته فوق المخيم؟

حويل: أنت ترى كيف يحاصرون في نابلس ويفتلون ونحن ننتظر بالبذلات العسكرية نقل الجثامين ملفوفة بالأعلام لكي نذهب إلى بيوت العزاء، هي مفارقة محزنة فنحن نعرف أن فلسفة وجود أي مؤسسة أمنية في أي دولة في العالم هي حماية مواطنيها أولا، ثم توفير لقمة العيش لهم ثانيا، وإذا لم أستطع أن أوفر الأمن لمواطني فلا مبرر لوجودي.

ونحن نتحدث عن جيش ومخابرات وأمن وقائي و11 جهازا أمنيا، فإذا لم تكن هذه الأجهزة لحماية شعبنا، فإنه بالتالي ينحت في وعي شعبنا أن هذه الأجهزة لها مهمة ثانية، وهذا الاحتلال نظر إلى اتفاقية أوسلو من زاوية أنه يريد "وكيلا أمنيا" فقط لا غير.

ياسر عرفات نظر إلى اتفاقية أوسلو كنقطة انطلاق نحو الدولة، وعندما اصطدم بالواقع والحقيقة أن إسرائيل تراوغ وتماطل من أجل فرض الأمر الواقع، من خلال إقامة الجدار وتهويد القدس واعتقال أسرى، وضع سلاحه على الطاولة ورفض كامب ديفيد.

"عرب 48": ولهذا السبب حاصروه وقتلوه؟

حويل: ما حصل في الضفة الغربية من أوسلو وحتى اليوم مصيبة، لأنها محور الصراع الحقيقي العسكري والأمني والثروة والمصادر الطبيعية وحرف الرواية، رواية "يهودا والسامرة"، وكما نعرف فإن الرواية اليهودية محورها في "يهودا والسامرة" وليس في يافا وحيفا، وبالتالي فإن من يفهم الحركة الصهيونية يدرك أنها تسعى منذ وعد بلفور إلى إقامة وطن قومي لليهود بما يشمل "يهودا والسامرة" وشرق الأردن أيضا، وعندما تفهم هذه المعادلة تدرك أنه لا يمكن لهذا الاحتلال أن يقدم أي شيء.

وأنت أمام انقسام داخلي حاد ووضع عربي يلهث وراء العلاقة مع إسرائيل وأميركا لحمايته من مخاطر وهمية في المنطقة، وهو يتآمر عليك تاريخيا، بالمقابل فإن كل ثورات العالم كانت تحارب الاحتلال فيما أنت تحارب "العالم"، لأنك تحارب مشروع استعماري غربي قادته بريطانيا ومن ثم أميركا، وعندما شملت عصبة الأمم المتحدة "وعد بلفور" في "صك الانتداب" وأصدرت الأمم المتحدة لاحقا "قرار التقسيم"، فإن ذلك كان يعني أن العالم كله شن عليك الحرب وأنك تواجه العالم.

مخيم جنين بعد المعركة (Gettyimages)

"عرب 48": قلت إن المخيم يمثل خيارا يحاولون دفنه؟

حويل: مخيم جنين فيه أناس يعشقون الحياة مثل بقية شعوب الأرض، ويكافحون من أجل أن تكون حياتنا أفضل، بمعنى أن تصل من جنين إلى نابلس من دون حواجز وأن تستطيع الوصول والصلاة في المسجد الأقصى من دون قيود، هذه حقوق ليست أخلاقية سماوية فقط، بل تنص عليها المواثيق الدولية، لكن هذا الاحتلال يستمر في دفعك لمربعات مواجهة، وفلسفة الشباب في المخيم أنه إذا مت من أجل الحياة الأفضل فأنت ذاهب إلى الحياة الأبدية، بمعنى أن فلسفتهم هي ليست فلسفة موت بل فلسفة حياة تنطلق من الآية الكريمة "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".


د. جمال حويل: أستاذ دراسات الشرق الأوسط في الجامعة العربية الأميركية، وعضو مجلس أمنائها لسنوات. حاصل على دكتوراة علاقات دولية من جامعة القاهرة وماجستير دراسات عربية معاصرة من جامعة بير زيت. وهو عضو مجلس تشريعي فلسطيني، انتخب عام 2006 وهو داخل سجون الاحتلال وعضو مجلس وطني وعضو سكرتاريا شبيبة فتح في فلسطين منذ عام 1996 وحتى خروجه من السجن وعضو مجلس ثوري لحركة فتح واحد قادة غرفة العمليات المشتركة في معركة مخيم جنين.

اعتقل ما يقارب 11 عاما في سجون الاحتلال وكان مطاردا لسنوات، واتهم بأنه أحد القيادات المؤسسة لكتائب الأقصى، وهو الأخ التوأم للشهيد نجيب حويل مؤسس مجموعات "الفهد الأسود". وهو من زرعين ولاجئ في مخيم جنين.

التعليقات